قال صلى الله عليه وسلم: «لم[size=18]
يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا
عابدا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج! فقال:
يا رب! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته. فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو
يصلي فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته. فانصرفت.
فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج! فقال: أي رب! أمي وصلاتي،
فأقبل على صلاته. فقالت: اللهم! لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.
فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته. وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت: إن
شئتم لأفتننه لكم. قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها. فأتت راعيا كان يأوي
إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت. فلما ولدت قالت: هو من
جريج. فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه. فقال: ما شأنكم؟
قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك. فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به. فقال:
دعوني حتى أصلي. فصلى. فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام!
من أبوك؟ قال: فلان الراعي. قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به.
وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت،
ففعلوا... » [مسلم: 2550] (1).
سبحان الله هذا عابد لا يفتر
عن العبادة، يقضي وقته كله في الصلاة ولا يضيع منه شيئا ولكن يشاء الله أن
تدعو أمه عليه ليستجيب الله لها ونعتبر نحن ونتعظ ونفهم أنّه مهما كان
الرجل صالح وتقي وعنده أمثال الجبال من الحسنات إلاّ أن هذا كله يضيع من
أجل عدم طاعة الأم وبرها، ولما لا فإنّ الأم هي رمز العطاء ينبوع الحنان،
برها طاعة وإيمان، وعقوقها كبيرة موبقة وخسران، بل كان أول ما ذكره الله
بعد الأمر بعبادته وتوحيده وجوب برها وطاعة أمرها، ووصى عليه الصلاة
والسلام بها ثلاثا وبالأب واحدة وقرن رب العزة الأمر بتوحيده وعدم الإشراك
به بالأمر بالإحسان إليها، فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [سورة النساء: من الآية 36] وقد وصى الله عز وجل بالأم من فوق سبع سموات فقال الله ـ رب العزة: {وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ
وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ} [سورة لقمان: 14] فقرن سبحانه شكره بشكرهما وطاعته بطاعتهما ووصله بوصلهما.
لأمك حقٌ لو علمت كبيرُ *** كثيرك يا هذا لديه يسيرُ
فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي *** له من جواها أنةٌ وزفيرُ
وفي الوضع لا تدري عليها مشقةٌ *** فمن غصصٍ منها الفؤاد يطيرُ
وكم غسّـلت عنك الأذى بيمينها *** وما حجرها إلا لديك سريرُ
وتفتديك مما تشتكيه بنفسها *** ومن ثديها شربٌ لديك نميرُ
وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها *** حنواً وإشفاقاً وأنت صغيرُ
فضيـّـعتها لما أسنــّت جهالةً *** وطال عليك الأمر وهو قصيرُ
فآاااه ً لذي عقلٍ ويتـّبع الهوى *** وآااه ً لأعمى القلب وهو بصيرُ
فدونك فأرغب في عميم دعاءها *** فأنت لما تدعو إليه فقيرُ
رأى ابن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت وهو يحمل أمه وراء ظهره
إنّي لها بعيرُها المذللُ *** إن أذعرت ركابُها لم أذعر
ثم قال هذا الرجل: يا بن عمر، أترى أني جزيتها، قال: لا، ولا بزفرة واحدة.
وهذا
أبا الأسود الدؤلي يتخاصم مع امرأته إلى قاض في ابنهما أيهما أحق بحضانته؟
فقالت المرأة: أنا أحق به، حملته مشقة، وحملته تسعة أشهر، ثم وضعته، ثم
أرضعته إلى أن ترعرع بين أحضاني وعلى حجري، فقال أبو الأسود: حملته قبل أن
تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فإن كان لها بعض الحق فيه فلي الحق كله أو جله،
فقالت: لئن حمله خفة فقد حملته ثقلاً، ولئن وضعه شهوة فقد وضعته كرها،
فقضى لها القاضي بحضانة الغلام.
نعم لأجل كل هذا أمر الله بالبر بها
ووعى سلفنا الصالح ذلك فكانوا قدوة لنا ومثالا يجب أن نحتذي به فعن أبي
عبد الرحمن الحنفي قال: رأى ابن الحسن عقربا في البيت فأراد أن يقتلها، أو
يأخذها، فسبقته، فدخلت في جحر، فأدخل يده في الجحر ليأخذها، فجعلت تلدغه،
فقيل له: لما هذا؟ قال: خفت أن تخرج من الجحر، فتجيء إلى أمي، فتلدغها.
وهذا زين العابدين، وكان من سادات التابعين ـ كان كثير البر بأمه، حتى قيل
له: إنّك من أبر النّاس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك، فقال: أخاف أن تسير يدي
إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها. وعن ابن عون أن ابن سيرين كان
إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضا من خفض كلامه عندها، وكان طلق
بن حبيب من العباد والعلماء، وكان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت
وهي تحته؛ إجلالا لها، فقد عرفوا أن رضاها طريق الجنة، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «إن خير التابعين رجل يقال له: أويس وله والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم» [رواه مسلم] بره بأمه جعله مستجاب الدعوة، قال صلى الله عليه وسلم: «رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه»، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» [رواه مسلم والترمذي]. و قال: «لا يدخل الجنة قاطع» [رواه البخاري ومسلم].
نعم
والله لقد عرفوا حق الأم ومكانتها في الإسلام فعظموها وكبروها ولم يكونوا
أبدا يهينوها، فما أكرمت أي ديانة أو شريعة أو قوانين الأم كما أكرمتها
شريعة الإسلام الغراء، وأقصى ما وصلت إليه المدنية الغربية الغبراء التي
أهانت النساء، والأسرة عندهم في تمزق وتشتت وشقاء، حيث الأبناء الصغار
ينفصلون تاركين بيت الآباء، وتنقطع الروابط وأواصر المحبة فلا انتماء، وليس
للأم عندهم أي حق أو وفاء، فإذا مرضت لم تجد من يسأل عنها ويرعاها كأنّها
بين الأعداء، ليس لها أحباب وعندما أكرموها جعلوا لها عيد الأمهات فيا
للجفاء، يرمونها طوال العام ويذكروها يوما واحدا فيا لها من مدنية عن كل
خير بتراء، عذرا إنّ الأم لا تستحق هذا العقوق وهذا العناء، فيا إخوتي لا
تتبعوا سبيلهم فإنّه طريق الشقاء، إنّ البر في الإسلام كل يوم والهدايا
بصفة دورية فلا ينقطع العطاء، أمّا أن نتذكرها يوما واحدا في العام بالبر
والإهداء، فهذا محض القطيعة والعقوق والجفاء، فأين المحبة حينئذ والمودة
والبر والصفاء، لو كان البر يوميا والهدايا باستمرار لما كان هناك معنى
لعيد الأم ولكان الاحتفال به محض الغباء، ولكن لما ضاع الحب والبر وانتشر
العقوق وأصبحت الأمة عن دينها صماء، وقتها احتفلت بأعياد الكفار لعلها تقلل
من العقوق والجفاء، فيا لوعة القلب هل ضاع حق الأم وبرها فلم يعد له بقاء،
وهل انقطع عن الدين الانتماء، فأصبحنا نحتفل بأعياد غيرنا من الأعداء أم
يا ترى بهرتنا مدنيتهم الغبراء، فتركنا أقوال العلماء في حرمة الاحتفال
بأعيادهم الشنعاء، لا يا إخوتي لا، إنّ الأم لا تستحق هذا الشقاء، ليس هكذا
يكون البر والوفاء، إنّما حقها أن نجعل كل أيامها فرح وأعياد ومحبة وبر
وصفاء فهي رمز العطاء فلا تقطعوا عنها العطاء.
لسوف أعود يا أمي أقبل رأسك الزاكي
أبثك كل أشواقي وأرشف عطر يمناك
أُمرغ في ثرى قدميك خدي حين ألقاك
أُروّي التُرب من دمعي سروراً في محياك
فكم أسهرتِ من ليل لأرقد ملأ أجفاني
وكم أظمئت من جوفٍ لترويني بتحنانك
ويوم مرضت لا أنسى دموعاً منك كالمطر
وعيناً منك ساهرةً تخاف عليّ من خطرِ[/size]